وسط الاحتجاز السياسي العام، الذي يكتنف المسألة الوطنية السورية، وفي ظل تصريحات تصدر عن جهات مؤثرة في العمل السياسي المعارض، ترى أن التدخل الخارجي صار «الحل الوحيد» في سوريا، مع ما يعنيه ذلك من اعتراف صريح بخروج القضية من أيدي من ضحوا طيلة أحد عشر شهرا في سبيل انتصارها، التقى في القاهرة مهتمون بالشأن السوري العام يمثلون اتجاهاته المتنوعة، ليناقشوا ويتدارسوا خلال أيام ثلاثة أوضاع وطنهم من مختلف جوانبها، ويحددوا مواقفهم منها، والمفاهيم التي يجب تناولها من خلالها، وما آل إليه الصراع بين الشعب والسلطة من نتائج، وما سيقوم في وطنهم من أوضاع.
وكان الداعون، وجلهم من الذين نشطوا بين عامي 2000 و2007 في «لجان إحياء المجتمع المدني»، التي لعبت دورا مميزا في تلمس شروط ومتطلبات الانتفاضة السورية الراهنة، قد دأبوا، كمستقلين عن التنظيمات المعارضة القائمة، على بذل جهود حثيثة من أجل توحيد المعارضة، وعملوا طيلة قرابة ستة أشهر من عام 2011، وقبل فترة طويلة من تأسيس «المجلس الوطني السوري»، لتوحيد تنظيمي المعارضة الكبيرين في الداخل: «التحالف الوطني الديموقراطي» و«إعلان دمشق». لكن جهودهم فشلت، وبدلا من توحيد هذين الفريقين تم توحيد جزء من التحالف الوطني مع منظمات يسارية، بالأحرى يسراوية، لم تعرف يوما برغبتها في، أو بنشاطها من أجل هذه الوحدة، بل عرفت بالعكس:
بمحاولاتها شق أحزاب المعارضة بزعم أنها ليست ثورية ولا تطالب بإسقاط نظام حافظ الأسد، وتحول بالتالي دون انتقال البلاد إلى النظام الاشتراكي، الذي سيقوم بعده حتما، باعتبار أن الديموقراطية «برجوازية» وتخطاها التاريخ. بهذا التوحيد، وقع شطر المعارضة السورية إلى فسطاطين:
انتسب أحدهما - إعلان دمشق - إلى تنظيم نشأ في الخارج وبطلب منه سمي «المجلس الوطني السوري»، بينما قام في الداخل ما عرف بـ«هيئة التنسيق لقوى التغيير الديموقراطي»، التي تضم اليوم حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديموقراطي والتنظيمات اليسراوية إياها. وفي حين وطن «المجلس» نفسه أساسا حيث هو، في الخارج، عانت «هيئة التنسيق» من حال بطالة سياسية جدية في الداخل، بعد ما اكتسبه المجلس من طابع تمثيلي لدى السوريين. ثم، حين قررت التحرك، لم يفتح الله عليها بخطة أحسن من العمل على مطاردته من مكان إلى آخر، ومحاولة بناء علاقات خارجية موازية لعلاقاته المتشعبة. لذلك، انتهى الأمر إلى وضع بدا معه كأن الحراك الشعبي، لا قيادة له غير ما تبلور وسطه من لجان شبابية ومجتمعية تمثلها «التنسيقيات»، التي اسلم قسم كبير منها أمره إلى المجلس الوطني في الفترة التي أعقبت مباشرة تشكيله، ثم انفضوا تدريجيا عنه، وها هي الناطقة باسمه تبشر السوريين بأن حل قضيتهم لم يعد بيدهم، أو لم يعد من اختصاصهم أو وقفا على نضالهم، بل يرتبط بالتدخل العسكري الخارجي وحده، دون أن تعلمهم أن دول الغرب أعلنت جميعها رفض المشاركة فيه، وأنه لم يبق لهم من أمل في الحرية أو النجاة غير دخول قوات إمارة قطر العظمى إلى الصراع وحسمه لصالح الشعب الثائر!.
بدءا من قيام الجبهة الوطنية التقدمية عام 1972، تشكلت الحركة الوطنية السورية من تيارين كبيرين: تيار حزبي نشأ عن انقسامات عرفتها جميع التنظيمات التاريخية القائمة بعد قيام الجبهة، وتيار ثقافي انتمى معظم أعضائه إلى أحزاب، لكنه انفصل عنها بعد خلافات كبيرة مع سياساتها وقياداتها، وبعد أن كان قد بدا عمله أواسط الخمسينيات، مع دور الياس مرقص ثم ياسين الحافظ النقدي، والتأسيسي، الذي أكد على ضرورة تخلق رؤية ثقافية / معرفية مستقلة عن السياسي القائم في الأحزاب. وقد مارس حملة هذه الثقافة دورهم من خلال انتمائهم إلى قضايا وليس إلى تنظيمات، فظلوا مستقلين عن القراءات السياسية الحزبية المعتمدة وعن رهاناتها، الضيقة عموما، وحافظوا على موقف نقدي منها. هذا التيار الثقافي لعب دورا فائق الأهمية في محاولات تصحيح مسارات الأحزاب وتطوير هياكلها، وبلور قواسم مشتركة ضرورية لثلم التناقضات التاريخية والموروثة القائمة بينها، وفهم السياسة تحت حيثية «الشأن العام»، فحررها من الضيق الأيديولوجي والشللية من جهة، ومن سيطرة واحتكار قيادات حزبية ثم سلطوية جاهلة عموما.
كانت أعوام 2000 /2007 سنوات تعاون فعال بين هاتين الكتلتين، عملت الأحزاب خلالها وفق برامج وخطوات، اقترحت اللجان معظمها إن لم تكن جميعها، ووصلت ذروتها في وثيقة «إعلان دمشق»، التي كانت فكرة بلورتها اللجان وكتبت نصها الأصلي، قبل تقديمها إلى «التجمع الوطني الديموقراطي»، الإطار الذي احتضن أحزاب المعارضة منذ عام 1979. وعلى الرغم من تفاوت وعي ونشاط اللجان والأحزاب، الذي كان كبيرا في مسائل متنوعة، فإن الأخيرة أقرت بالنفع الذي جنته من التجربة، حتى أن الأستاذ حسن عبد العظيم، الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديموقراطي قال لي ذات مرة عام 2003: إن حزبنا استعاد بفضل الحراك المدني أوضاعه التنظيمية وعدده الذي كان له عام 1964: عام الذروة من نشاطه وحضوره الشعبي. لكن الاعتقالات التي تركزت عام 2006 على نشطاء من المجتمع المدني، ثم الصراعات التي رافقت تأسيس تجمع «إعلان دمشق» وما نجم عنها، لعبت دورا مهما فيها من مشكلات وخلافات شخصية أساسا، كانا نقطة افتراق حقيقية في مجمل التطور اللاحق، ترتب عليهما أمران جوهريان:
- بروز دور الأحزاب في حقبة أولى على حساب دور اللجان، وغلبة الحراك الحزبي على حساب الحراك المدني. كما استعادت قيادات الأحزاب زمام المبادرة في العمل السياسي، الذي ما لبث أن تحول إلى عمل حزبي بالمعنى الضيق، في حين تراخى دور اللجان وتحول من دور تمارسه تجمعات ثقافية منظمة إلى دور مثقفين أفرادا تمت تسميتهم «المستقلين» أو»الشخصيات المستقلة»، بالنظر إلى رفض معظمهم الانتماء إلى أحد الفريقين المتصارعين على الساحة: «التجمع» و«الإعلان»، أو إلى ترك من انتمى منهم الفريق الذي تعاون معه، وعودته إلى العمل العام كمثقف مستقل.
- عودة العمل السياسي بعد انشقاقات إعلان دمشق إلى الانحدار وصولا إلى نقطة تقارب الصفر، بينما برز بالمقابل حراك شبابي، كان تأثره بفكر وروحية لجان المجتمع المدني واضحا، وكانت صلاته برموزها يومية.
أكد نشوب الانتفاضة مأزق وأزمة المعارضة الحزبية السورية، التي انقسمت في نهاية الأمر إلى تيارين سبق ذكرهما: خارجي يمثله المجلس الوطني، وداخلي تمثله هيئة التنسيق، وفي حين يرفض الأول رفضا قاطعا الإقرار بوجود أي فريق معارض إلى جانبه على الأرض السورية، ويطالب العالم بالاعتراف به كـ «ممثل شرعي ووحيد» للشعب السوري، ويريد لبقية المعارضة الانضمام إليه أو الانزواء جانبا، في تجربة يجب أن يقشعر لها منذ الآن بدن أي ديموقراطي، ليس فقط لأنها تستنسخ نظام الحزب الواحد في مستوى أشد انحطاطا بكثير من مستوى البعث، الذي كان قد وعدنا بالوحدة والحرية والاشتراكية قبل الاستيلاء على السلطة، فأتانا بما عايشناه وكابدنا الأمرين منه خلال نصف القرن المنصرم، بينما لا يعدنا السادة الجدد، الذين يجهل قسم كبير جدا من الشعب كل شيء عنهم، وما هي هويتهم الحقيقية، وطبيعة انتماءاتهم ولا يعرفهم كأشخاص، بأي شيء غير الحكي عن دولة مدنية تشي تصرفاتهم العملية بأنهم لن يقيموا أي مقوم من مقوماتها في الحياة السورية، وأن رهاناتهم تتعارض جذريا مع أي مطلب مدني أو ديموقراطي، يرفض الثاني القيام بأي جهد حقيقي للتوطن في الداخل باعتباره الفسحة الحاسمة، التي يدير الأول ظهره لها بصورة تكاد تكون تامة، ويفضل التوجه نحو الخارج، لمنافسته عليه، علما بأنه لن ينجح في تحقيق أي شيء فيه، إلا إذا كان يعتقد أن الخارج ساحة محايدة لا إرادة لها ولا تعرف كيف تصنع من تحتاج إليهم ويناسبونها!
تقول كتابات ومراسلات وتصريحات كثيرة أن الحراك الشعبي يجد اليوم نفسه دون تمثيل سياسي فاعل أو مؤثر أو مطابق أو حقيقي، وأن انزياحا خطيرا نشأ في ساحته بعد تأسيس المجلس ودخول الهيئة في منافسة عقيمة معه، وأن نتيجة ذلك كله كانت:
- تراجعا شديدا عرفه مطلب الحرية كمطلب جامع اتحد السوريون حوله وبفضله. - بروزا حثيثا لطابع طائفي، وسم تدريجا بعض مناطق الحراك، كانت السلطة وراءه وأرادت منه شق الشعب، وتحويل معركته ضدها إلى صراع فئوي وطائفي داخله وبين صفوفه. لم يفعل المجلس أي شيء للتصدي لهذا النزوع، بل إن بعض أطرافه شجعت أوساطا معينة على الانخراط فيه.
- وبروز النزوع إلى السلاح، والتنظير لإفلاس النزعة السلمية ولضرورة تبني العنف والانخراط في العسكرة.
- وأخيرا، وضع العمل الوطني أكثر فأكثر في يد أطراف حزبية مذهبية، مع أن الثورة بدأت مجتمعية ووطنية وتبنت أهدافا مناقضة لأية حزبية أو مذهبية.
هذه التطورات كانت جميعها مما يريده النظام، وقد لاقاها قطاع من المجلس في نشاطه أو لم يبذل أي جهد جدي لقطع الطريق عليها، وارتضى في النهاية العمل في إطارها والإفادة منها.
والخلاصة: بما أن نجاح الثورة يتوقف اليوم على تصحيح مساراتها السياسية، وعلى وجود تعبير عنها، وبما أن هذا التعبير لن يتجسد في تعبير حزبي أو جزئي، ولن يكون من صنع فريق بعينه، بل سيتمخض عن حراك مجتمعي واسع وحوار وطني متعدد الأطراف وصريح، وعن علاقات ودية وندية بين أطياف الشعب المختلفة وأطراف المعارضة المتنوعة، فضلا عن التمسك بالحقائق ونبذ الأوهام، واستعادة رهانات الثورة الشعبية الأصلية، وعلى رأسها الحرية والعدالة والوحدة الشعبية والمجتمعية والسيادة الوطنية واستقلال الدولة السورية، فإن «المنبر الديموقراطي السوري» لا يرى لنفسه مهمة أو عملا خارج هذه الأسس، ولن يغلب بأي حال وتحت أي ظرف أي تناقض ثانوي مع أي طرف في المعارضة على التناقض الرئيس مع النظام، وسيسعى، دون أن يكون تنظيما أو حزبا جديدا، إلى تنظيم عمل المستقلين ونشطاء المجتمع المدني في إطار ثورة المجتمع السوري الحالية، التي يريد نفسه رافدا من روافدها. وكما أنه لن يخوض معارك نافلة ولا لزوم لها، فإنه لن يحجم عن قول الحقيقة أو يتردد عن الدعوة إليها، بينما يقوم بدوره في توحيد الصوت الوطني وتعزيز وسائله وتحديد أهدافه، دون أي تمييز بين فريق وآخر أو مواطن وآخر، يدفعه إلى ذلك إيمانه بأن معركة الحرية في سوريا دانية القطوف، وأنه لا يجوز لأي جهة إضاعة أو تهديد أو إضعاف فرص كسبها لصالح الشعب، أي لصالح كل مواطن سوري وكل جماعة وطنية سورية، ما دامت الحرية وليس أي معيار آخر هي القيمة التي سيقيس المنبر من خلالها الجميع، ويعاين بواسطتها الأقوال والأفعال، والتي سيستخدمها لإقامة جماعة وطنية موحدة ومجتمع مندمج ومتماسك، ترعاه دولة تعبر عن إرادته العامة في صعيد السياسة العليا والعدالة والمساواة.
سيعمل المنبر على تحسين فرص الحراك في التعبير عن نفسه، وسيبذل جهودا صادقة كي يكون مصدر معرفة نزيهة بالحقائق والوقائع السورية والعربية والدولية، ويوطد ثقة السوريين بأنفسهم وبقضيتهم العادلة، لذلك، لن يضع نفسه في مواجهة أحد، أو يكون بديلا لأحد، وهو لا يفهم نفسه كتنظيم جديد رغم أنه يريد لعمل المستقلين أن يكون منظما ورفيع العائد. قال المنبر إنه رافد من روافد الثورة، وأقول الآن إنه يجب أن يكون إضافة تنفعها، وإلا فقد مسوغ وجوده واستمراره .
تبقى ملاحظة مهمة: إن أية محطة تلفاز خليجية، وهي جميعها «محبة» جدا لشعب سوريا، وراغبة في نشر الديموقراطية السائدة عندها في بقية ربوع الاستبداد العربي، لم تذع أي شيء عن تشكيل «المنبر الديموقراطي السوري»، بينما طنطنت وهللت لأي تشكل معارض يطالب بالتدخل العسكري الخارجي.
تلك شهادة حسن سلوك سيعرف أعضاء «المنبر» كيف يقدرونها حق قدرها، في الصراع الدائر اليوم من أجل سوريا الديموقراطية، كما في صراعات المستقبل على هويتها.